فصل: فائدة لغوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في معاني {كَتَبَ}:

في {كَتَبَ} وجوه:
أحدها: أنَّها هنا بمعنى جَعَل؛ كقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جَعَل، وقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53]، وقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].
الثاني: معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51]، أي: قضاه.
الثالث: ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ.
الرابع: ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال.
قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} الفائدةُ في ذكرهما: أنَّه لو اقتصر على قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ، والأول جواب نازلةِ عمر، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ.
قوله: {حَتَّى يَتَبَيَنَّ} {حَتَّى} هنا غايةٌ لقوله: {وَكُلُواْ واشربوا} بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، وَأَبَانَ، واسْتَبَانَ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً، إلاَّ بَانَ فلازمٌ ليس إلاَّ، و{مِنَ الخَيْطِ} لابتداء الغاية، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب {يَتَبَيَّنَ}؛ لأنَّ المعنى: حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود.
و{مِنَ الفجر} يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضًا ب {يَتَبيَّنَ}؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما.
والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائنًا من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون {مِنْ} لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ.
والثالثك أن يكون تمييزًا، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قوله: {الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} بقوله: {مِنَ الفجر} ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول: مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ.
وهذا من أحسن التَّشْبيهات، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط، تعجَّب منه، وقال: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» ويُروى: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا».
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ، ويروى أن بين قوله: {الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} وبين قوله: {مِنَ الفجر} عامًا كاملًا في النزول.
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ، قال: أُنْزِلَتْ {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} ولم ينزل قوله: {مِنَ الفجر} وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض، والخَيْط الأَسْود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى: {مِنَ الفجر}، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار، وسُمِّي الفجر خَيطًا؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدًّا؛ كالخيط.
قال الشَّاعر: البسيط:
أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ** وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ

والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون، قاله القرطبيُّ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال: المتقارب:
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ ** وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا

وقد تُسمِّيه العرب أيضًا الصَّديع، ومنه قولهم: انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ: الوافر:
تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشًا ** يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ

وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله: {مِنَ الفجر}، ونظيره قولك: رَأَيْتُ أَسَدًا مِنْ زَيْد، لو لم تَذْكُر: مِنْ زَيْدٍ لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لابد فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل: {مِنَ الفَجْرِ} فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.
قوله: {إلى اللَّيلِ} في هذا الجارِّ وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بالإتما، فهو غايةٌ له.
والثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنًا إلى اللَّيل، و{إلَى} إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها، لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل.
قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل {تُبَاشِرُوهُنَّ}، والمعنى: {لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ}، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضًا.
والعُكُوفُ: الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع: لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه، يقال: عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قرئ: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين، وقال الفَرَزْدَقُ: الطويل:
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ** عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ

وقال الطِّرمَّاحُ: الطويل:
فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا ** عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ

ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشَّرِّ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع.
فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة، وقرأ قتادة: {عَكِفُونَ} كأنه يقال: عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو: بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ وَرَبٌّ، وقرأ الأعمش: {في المَسْجِدِ} بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ} فأطلق على الكل حُدُودًا؛ تغليبًا للمنطوق به، واعتبارًا بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه {فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ: {لاَ تَقْرَبُوهَا} أي: لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34].
قال أبو البقاء: دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره: تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب {حُدُودُ اللَّهِ} على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، وعَمْرًا فَلاَ تُهنْهُ فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحُدُودُ: جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ: حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ رحمه الله تعالى: وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي: يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ.
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديدًا؛ لما فيه من المنع، وكذلك: إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة.
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.
قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ: أي: بيانًا مثل هذا البيان.
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بيانًا شافيًا وافيًا- قال بعده: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح.
أو حالًا من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه.
قال أبو مُسْلِم: أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] ثم فسَّر الآيات بقوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْ ليتَّقُوه، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله. اهـ. باختصار.

.لطيفة في معنى اللباس:

ورد لفظ اللِّبَاسِ على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية.
الثاني: الخلط؛ قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، أي: لم يخلطوا.
الثالث: العمل الصالح؛ قال تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى} [الأعراف: 26]، أي: عمل التقوى.
الرابع: اللِّباس بعينه؛ قال تعالى: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]. اهـ.

.قال ابن عادل:

وقوله: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأَنَّ.
و{تَخْتَانُونَ} في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان.
قال أبو البقاء: و{كُنْتُمْ} هنا لفظها لفظ الماضي، ومعناها أيضًا، والمعنى: أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم، فتاب عليهم منه، وقيل: إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال، وذكر كان ليحكي بها الحال؛ كما تقول: إن فعلت، كنت ظالمًا وفي هذا نظرٌ لا يخفى.
و{تَخْتَانُونَ} تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْنًا، وخِيَانَةَ، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت: الوافر:
بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ** قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ

وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال: 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.
وقال الزمخشريُّ: والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِئ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أشهر. اهـ.
قال القرطبيُّ: معنى {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: يستأمر بعضكم بعضًا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] أي: يقتل بعضكم بعضًا، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائنًا لنفسه من حث كان ضرره عائدًا عليه. اهـ.

.فائدة لغوية:

قال الليث: حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري: ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب: حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع: حدًا، وسمي الحديد: حديدًا لما فيه من المنع، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الاشتقاق فنقول: المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» الضمير عائد إلى الحق. على كل عضو في الظاهر صوم، وعلى كل صفة في الباطن صوم. فصوم اللسان عن الكذب والنميمة، وصوم العين عن محل الريبة، وصوم السمع عن استماع الملاهي، وعلى هذا فقس البواقي. وصوم النفس عن التمني والشهوات، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها، وصوم السر عن شهود غير الله {كما كتب على الذين من قبلكم} أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية {لعلكم تتقون} مشارب المركبات وتطهرون عن دنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه» {فمن كان منكم مريضًا} أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة {أو على سفر} حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب. {وعلى الذين يطيقونه} على من كان له قوة في صدق الطلب {طعام مسكين} فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» {فمن تطوع خيرًا} فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر.
وروي فدى ذلك المشرب أيضًا أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال: {وبينات من الهدى والفرقان} فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال أبو يزيد: ناداني ربي وقال: أنا بدك اللازم فالزم بدك.
رمضان يرمض ذنوب قوم، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم. رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله {يريد الله بكم اليسر} وهو مقام الوصول {ولا يريد بكم العسر} وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مرًا، فمراده حصول الصحة لا إذاقة مرارة الدواء. وأيضًا «كل ميسر لما خلق له» لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر شعر:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ** من فيض جودك ما علمتني الطلبا

{ولتكملوا} عدة أنواع الغاية بجذبات {يريد الله بكم اليسر} {ولتكبروا الله} ولتعظموه {على ما هداكم} إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال {ولعلكم تشكرون} نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال.
قوله سبحانه: {أحل لكم ليلة الصيام} اعلم أن في الإنسان تلونًا في الأحوال. فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودًا إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا} [القصص: 72] الآيتين. ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء {هن لباس لكم} أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي {وأنتم لباس لهن} تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل «نعم المال الصالح للرجل الصالح» {فالآن باشروهن} بقدر الحاجة الضرورية {وابتغوا} بقوة هذه المباشرة {ما كتب الله لكم} من المقامات العلية {وكلوا واشربوا} في ليالي الصحو {حتى يتبين لكم} آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض، وزيادة ونقص، وجذب وحجب، وجمع وفرق، وأخذ ورد، وكشف وستر، وسكر وصحو، وإثبات ومحو، وتمكين وتكوين، كما قيل:
كأن شيئًا لم يزل إذا أتى ** كان شيئًا لم يكن إذا مضى

{في المساجد} أي في مقامات القربة والأنس. وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق، وهذا مقام أهل التمكين {فلا تقربوها} بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير. اهـ.